قصص الطريق

أحد هواياتي التي لا يعلم بها أحد، كانت ركوب سيارات الأجرة التي تمر بقريتنا وأنا صبي، في وقت متأخر قريب الغروب، تحمل الطلاب والفلاحين والعمال والمجندين العائدين في إجازات قصيرة، إلى القرى التي تلي قريتنا على الخط، أركب أول سيارة ربع نقل pickup تحمل اثنين على الأقل في صندوقها، أتجاهل المقعد بجوار السائق وإن كان خاليًا، أقفز إلى الصندوق بجوار الركاب الذين يحملون مع حقائبهم رائحة الحقول ومدرجات الجامعة وثكنات الجيش، وكنز من حكايات ما زلت أحفظ الكثير منها، ولم أزل أستعين بها في أحاديث المساء.

لم أكن أسأل عن الوجهة الأخيرة للسيارة ولا خط سيرها، وجهتي كانت الحكايات، كنت صغيرًا شغوفًا بالقراءة، الكل يعلم هذا عني، دودة الكتب الذي لا يلهو كثيرًا، والذي لا يحضر من الحصص المدرسية إلا الحصة الأولى - مضطرًا - إذا تأخر أمين المكتبة، لكن لا أحد يعلم أنني كنت أستمع لقصص قصيرة في هذه الرحلات الصغيرة أكثر متعة من كل ما كتب إدريس ومحفوظ وأوسكار وايلد.

في بداية خروجي من البيت كانت المضيفة بصحبة أبي وأبناء عمومته مجلسي المفضل زمنًا ليس بقليل، لكن حكايات الطريق هذه لها مذاق مختلف عن حكايات أبي وأعمامي، بينما قصص العرب غالبًا عن هواياتهم وتراث آبائهم، كانت حكايات الفلاحين طازجة من يومهم الذي انقضى قبل ساعة، وهؤلاء لهم قدرة عجيبة على تحويلك إلى صديق مقرب بعد نصف دقيقة من ركوبك السيارة، متدثرين بمعاطفهم وعمائمهم من برد ليالي الشتاء يرفعون أصواتهم فوق الريح لتصلك الحكاية كما ينبغي، بأدق التفاصيل عن حياتهم الشخصية ومغامراتهم. بعضهم كان يستشيرني في مشاكله العائلية بعد بضع دقائق من لقائنا في صندوق سيارة مفروش بقش الأرز، وأنا وقتها ابن أربع عشرة سنة، يبدو أنني أوحي بالثقة منذ زمن طويل، ومازالت هذه اللعنة تلازمني لليوم، مع أني لست من النوع الذي يشتكي شيئًا لا لغريب ولا لقريب، أو ربما لم أكن ذا قيمة وقتها إلا أنني غريب، لن أفشي أسرارهم ولن أحاسبهم على أخطائهم وستنتهي علاقتنا بعد دقائق معدودة حينما يصلون إلى وجهتهم.

ومع كثرة مشاكل الناس وقتها لا تكاد قصصهم تخلو من عبرة أو سخرية، الشراقوة كما لاحظت عبر سنين عرفوا الأدب الشعبي الساخر قبل أن يصبح اسمه الأدب الساخر، وهم ساخرون من كل شيء بالفطرة، حتى من أنفسهم، وإن لم تكن القصة مضحكة فهي بلا ريب ستبكيك، ما من نهاية لقصصهم إلا أن تضحك ملء شدقيك أو أن تستعبر وأنت تمصمص شفتيك وتسبح الله تعالى وتعجب من حكمته.

الأربعاء 25 ربيع الآخِر 1442 من الهجرة

سامي الطحاوي السلمي